الوقفة الثانية
كانت
حادثة تغيير القبلة اختبارًا لمدى قدرة الأمة المسلمة على "التسليم" لكل
ما يجيء به دينها، ولمدى إمكانية أن تغيِّر ما في نفسها كي تؤمن وتطيع
وتلتزم، قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا
إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى
عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى
اللهُ) [البقرة: 143].
هذه
الطاعة، وذلك التسليم، الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لا
يملكه في قوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما) [النساء:
65].
وقد نجحت الأمة المسلمة في هذا الاختبار، وفي قدرتها على التسليم وعلى
تغيير النفس حين استسلم الصحابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه
وسلم، فما جادلوا، ولا تلجلج الإيمان في قلوبهم، بل إنهم من كمال
استسلامهم أن تحولوا إلى القبلة وهم يصلون، ولم ينتظروا الصلاة التالية.
الوقفة الثالثة
كان
العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم ويعدونه عنوان مجدهم، ولما كان
الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من
كل نعرةٍ، وكل عصبيةٍ لغير منهج الله تعالى، ذلك المنهج المجرد من كل
علاقةٍ تاريخيةٍ أو عنصريةٍ، بل وأرضية، فقد انتزعهم من الاتجاه إلى البيت
الحرام، وشاء لهم الاتجاه إلى المسجد الأقصى لفترةٍ ليست بالقصيرة، وما
ذاك إلا ليخلِّص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في
الجاهلية، وليعلم من يتبع الرسول اتباعًا مجردًا من كل إيحاءٍ آخر، اتباع
الطاعة والرضى والتسليم، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازًا بنعرةٍ جاهليةٍ
تتعلَّق بأيِّ شيءٍ كان؛ جنسٍ أو قومٍ أو أرضٍ أو تاريخ، أو حتى تتلبس بها
في خفايا النفوس والقلوب.
ثم
لمَّا خلصت النفوس وجَّهها الله تعالى إلى قبلةٍ خاصةٍ تخالف قبلة أهل
الديانات السماوية الأخرى تخليصًا لها من خرافات انحرافات هذه الديانات،
وهو ما أغرى "السفهاء" منهم بالاعتراض والتشكيك، وردَّ الله تعالى كيدهم
وجهلهم: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:
142].
وقد
وصف الله تعالى هذه القدرة على تخليص النفوس بأنها "كبيرة": (وَإِن
كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) [البقرة: 143]،
غير أنها ليست كذلك على الذين هدى الله تعالى، فمع الهدى لا مشقة ولا عسر
في أن تخلع النفس عنها أي رداءٍ سوى الإسلام، وأن تنفض عنها رواسب
الجاهلية، وأن تتجرد لله تعالى تسمع منه وتطيع، وحيثما وجهها الله تعالى
تتجه.
أراد
الله تعالى لنفس المسلم أن تتخلَّص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها، وأن
تتجرد من كل شعار اتخذته في الجاهلية، فبدأ توجيهها إلى قبلةٍ تخالف قبلة
العرب تخليصًا لها من ارتباطها بالجاهلية، ثمَّ عاد وخصَّها بقبلةٍ تخالف
قبلة أهل الديانات السماوية الأخرى، تنقيةً لها من التحريف والتزوير.
هكذا
تعاملت الأمة المسلمة مع حادثة تحويل القبلة، وتعاملنا اليوم مع هذه
الحادثة يجب أن يكون بمنطق "التحويل" الذي حدث بسببه تحويل القبلة: أن
نخلع عن أنفسنا كل ما يعوق التزامنا بتعاليم ديننا، ألاّ تمنعنا أية وشائج
من أن نكون كما أراد الله تعالى، أن نملك اليقين والطاعة والتسليم أمام كل
ما يأمرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن نغلِّب ذلك كله على جنسنا
وأرضنا وأهلنا ونسبنا والناس أجمعين، أن ينفرد الإسلامُ في حِسِّنا، وأن
لا ينازعه في ذلك أحد أو جهةٌ أو كيان.
وعندما نفعل ذلك نعود لأمة التميز والخصوصية، والريادة والقيادة، والشهادة على العالَمين.
لقد
كان لحادثة تحويل القبلة آثارٌ كبيرةٌ في حياة الأمة المسلمة في داخلها،
وفي علاقاتها مع الآخرين، وهكذا يجب أن يكون لهذه الحادثة اليوم آثارها في
نفوسنا وفي علاقاتنا بالآخرين: (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ) [البقرة: 143].
إنها لم تكن حادثة تحويل قبلة قدر ما كانت حادثة تحويل نفس