حديث الجارية والرد على الوهابية
قال المؤلّف رحمه الله : وأمّا ما في مسلم من أن رجلاً جاءَ إلى
رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فسألهُ عن جارية لهُ قال: قلتُ: يا رسولَ
الله أفلا أعتِقُها، قال : ائتني بِها، فأتاهُ بِها فقالَ لَها: أينَ
الله، قالت: في السماءِ، قال: مَن أنا، قالت: أنتَ رسولُ الله، قال:
أعتِقْها فإنّها مؤمنةٌ. فليسَ بصحيحٍ لأمرينِ: للاضطرابِ لأنه رُويَ
بِهذا اللفظ وبلفظِ : مَن رَبُّك، فقالت: الله، وبلفظ : أين الله، فأشارت
إلى السّماءِ، وبلفظ : أتشهَدينَ أن لا إله إلا الله، قالت: نعم، قال:
أتشهدينَ أنّي رسولُ الله، قالت : نعم.
والأمرُ الثاني : أن رواية أين الله مخالفةٌ للأصولِ لأنَّ من أصولِ
الشريعةِ أن الشخصَ لا يُحكَمُ له بقولِ "الله في السماءِ" بالإسلامِ
لأنَّ هذا القولَ مشتَركٌ بين اليهودِ والنّصارى وغيرِهم وإنّما الأصلُ
المعروفُ في شريعةِ الله ما جَاءَ في الحديثِ المتواتر: " أمرتُ أن أقاتلَ
النَّاسَ حتّى يشهَدُوا أن لا إلهَ إلا الله وأنّي رسولُ الله " (١).
ولفظُ روايةِ مالكٍ : أتشهدينَ، موافقٌ للأصول.
فإن قيلَ : كيف تكونُ روايةُ مسلم: أين الله، فقالت: في السماءِ، إلى
ءاخره مردودةً مع إخراج مسلم لهُ في كتابهِ وكلُّ ما رواهُ مسلمٌ موسومٌ
بالصّحّةِ، فالجوابُ : أن عدَدًا من أحاديثِ مسلمٍ ردَّها علماءُ الحديثِ
وذكرَها المحدّثونَ في كتبهم كحديث أن الرسولَ قال لرجُلٍ : إنَّ أبي
وأبَاكَ في النّار، وحديث إنه يُعطى كل مسلم يومَ القيامَةِ فِداءً لهُ
مِنَ اليهودِ والنصارَى، وكذلكَ حديث أنسٍ: صَليتُ خلفَ رسولِ الله وأبي
بكرٍ وعمرَ فكانوا لا يذكرونَ بسم الله الرحمنِ الرحيم. فأمَّا الأولُ
ضَعَّفَهُ الحافظُ السيوطيُّ، والثاني رَدَّهُ البخاريُّ، والثالثُ
ضَعَّفَهُ الشافعيُّ وعدد من الحفاظ.
فهذا الحديثُ على ظاهرِهِ باطلٌ لمعارضَتِهِ الحديثَ المتواترَ المذكورَ
وما خالفَ المتواترَ فهو باطلٌ إن لم يقبل التأويلَ. اتفقَ على ذلك
المحدِّثونَ والأصوليُّونَ لكن بعض العلماءِ أوَّلُوهُ على هذا الوجهِ
قالوا معنى أينَ الله سؤال عن تعظيمِها لله وقولـها في السماءِ عالي
القدرِ جدًّا أما أخذه على ظاهره من أن الله ساكن السماء فهو باطلٌ مردودٌ
وقد تقررَ في عِلمِ مصطلح الحديثِ أنَّ ما خالفَ المتواتر باطلٌ إن لم
يقبل التأويل فإن ظاهرَه ظاهرُ الفساد فإن ظاهرَه أنَّ الكافرَ إذا قالَ
الله في السماءِ يُحكم لهُ بالإيمانِ.
وحمل المُشبهة رواية مسلم على ظاهرهَا فَضَلُّوا ولا يُنجيهم منَ الضلالِ
قولُهم إننا نحملُ كلمةَ في السماءِ بمعنى إنهُ فوقَ العرشِ لأنهم يكونونَ
بذلكَ أثبتوا لهُ مِثلاً وهوَ الكتابُ الذي كَتَبَ الله فيه إن رَحمَتي
سَبَقَت غَضبي فوقَ العرشِ فيكونونَ أثبتوا المُمَاثَلَةَ بينَ الله وبينَ
ذلكَ الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلكَ الكتاب مستقرَّينِ فوقَ العرش
فيكونونَ كذبوا قولَ الله تعالى : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ وهذا
الحديث رواهُ ابن حبانَ بلفظ "مرفوع فوقَ العرشِ"، وأما روايةُ البخاري
فهي "موضوع فوقَ العرشِ"، وقد حَملَ بعضُ الناسِ فوقَ بمعنى تحت وهو
مردودٌ بروايةِ ابنِ حبانَ بلفظ "مرفوع فوق العرش" فإنه لا يَصحُّ تأويلُ
فوقَ فيه بتحت. ثم على اعتقادِهم هذا يلزمُ أن يكونَ الله محاذيًا للعرشِ
بقدرِ العرشِ أو أوسَعَ منهُ أو أصغرَ، وكلُّ ما جَرَى عليهِ التقديرُ
حادِثٌ محتاجٌ إلى من جَعَلَهُ على ذلكَ المقدارِ، والعرشُ لا مناسبةَ
بينهُ وبينَ الله كما أنه لا مناسبةَ بينهُ وبينَ شىءٍ من خَلقِهِ، ولا
يتشرَّفُ الله بشىءٍ من خلقِهِ ولا ينتفعُ بشىءٍ من خلقِهِ. وقولُ
المشبهةِ الله قاعدٌ على العرشِ شَتمٌ لله لأن القعود من صفةِ البشرِ
والبهائمِ والجِنِّ والحشرات وكلُّ وَصفٍ من صفاتِ المخلوقِ وُصِفَ الله
به شَتمٌ لهُ، قالَ الحافظُ الفقيهُ اللغويُّ مرتضى الزبيديُّ: "مَن
جَعَلَ الله تعالى مُقَدَّرًا بِمقدارٍ كَفَرَ" أي لأنهُ جعلَهُ ذا كميةٍ
وحجم والحجمُ والكميةًُ من موجبَاتِ الحُدوثِ، وهل عرفنا أن الشمس حادثةٌ
مخلوقةٌ من جهةِ العقلِ إلا لأن لَها حَجمًا، ولو كانَ لله تعالى حجمٌ
لكانَ مِثلاً للشمسِ في الحجميَّةِ ولو كانَ كذلكَ ما كانَ يستحُقُّ
الألوهيةَ كَما أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهية. فلو طَالَبَ هؤلاءِ
المشبهةَ عابدُ الشمسِ بدليلٍ عقليّ على استحقاقِ الله الألوهية وعدم
استحقاقِ الشمسِ الألوهية لم يكن عندَهم دليلٌ، وغَايَةُ ما يستطيعونَ أن
يقولوا قالَ الله تعالى : ﴿لله خالق كُلِّ شَىْءٍ ﴾ فإن قالوا ذلكَ لعابدِ
الشمسِ يقولُ لهم عابدُ الشمس : أنا لا أؤمنُ بكتابكم أعطوني دليلاً
عقليًّا على أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهيةَ فهنا ينقطعونَ.
فلا يوجدُ فوقَ العرش شىءٌ حيٌّ يسكنه إنما يوجدُ كتابٌ فوقَ العرشِ
مكتوبٌ فيه: " إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضبي" أي أن مظاهر الرحمة أكثر من
مظاهر الغضب، الملائكة من مظاهر الرحمة وهم أكثرُ عددًا من قطرات الأمطار
وأوراق الأشجار، والجنة من مظاهر الرحمة وهي أكبر من جهنم بآلاف المرات.
وكونُ ذلك الكتابِ فوقَ العرشِ ثابتٌ أخرجَ حديثهُ البخاريُّ والنسائيُّ
في السننِ الكبرى وغيرهُما، ولفظ روايةِ ابن حبّانَ : " لَمَّا خلقَ الله
الخلقَ كتبَ في كتابٍ يكتبُهُ على نفسِهِ (١) وهو مرفوعٌ فوق العرشِ إن
رحمتي تَغلبُ غَضَبي".
فإن حاوَلَ محاوِلٌ أن يؤوّلَ "فوق" بمعنى دون قيلَ لهُ: تأويلُ النصوصِ
لا يجوزُ إلا بدليلٍ نقليّ ثابتٍ أو عقليّ قاطِعٍ وليس عندهم شىءٌ من
هذينِ، ولا دليلَ على لزومِ التأويلِ في هذا الحديث، كيفَ وقد قالَ بعضُ
العلمَاءِ إن اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ لأنه لم يَرد نصٌّ صريحٌ بأنه
فوق العرشِ ولا بأنه تحتَ العرشِ فبقي الأمرُ على الاحتمالِ أي احتمالِ أن
اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ واحتمالِ أنه تحتَ العرشِ، فعلى قولهِ إنهُ
فوقَ العرشِ يكون جعلَ اللوحَ المحفوظَ معادِلا لله أي أن يكونَ الله
بمحاذاةِ قسم منَ العرشِ واللوحُ بمحاذاةِ قسمٍ مِنَ العرشِ وهذا تشبيهٌ
لهُ بخلقِهِ لأن محاذاةَ شىءٍ لشىءٍ مِن صفاتِ المخلوقِ. ومما يدل على أن
ذلك الكتاب فوق العرش فوقيةً حقيقيةً لا تحتمل التأويل الحديث الذي رواه
النسائيُّ في السنن الكبرى: "إنَّ الله كتَب كتابًا قبل أن يخلُقَ
السمواتِ والأرض بألفي سنة فهوَ عندَهُ على العرشِ وإنه أنزلَ من ذلك
الكتاب ءايتين ختم بِهما سورة البقرةِ"، وفي لفظ لمسلم : "فهو موضوعٌ
عندهُ" فهذا صريحٌ في أنَّ ذلكَ الكتاب فوقَ العرشِ فوقيةً حقيقيةً لا
تحتَمِلُ التأويلَ.
وكلمةُ "عندَ" للتشريفِ ليسَ لإثباتِ تحيز الله فوقَ العرشِ لأنَّ "عندَ"
تُستعمَلُ لغيرِ المكانِ قالَ الله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ﴾ [سورة
هود/83-84) إنَّما تدلُّ "عندَ" هنا أنَّ ذلكَ بعلمِ الله وليسَ المعنى
أنَّ تلكَ الحجارة مجاورةٌ لله تعالى في المكَان. فمَن يحتجُّ بمجرّدِ
كلمةِ عند لإثباتِ المكانِ والتَّقارُبِ بينَ الله وبينَ خلقِهِ فهوَ من
أجهَل الجاهلينَ، وهل يقولُ عاقلٌ إنَّ تلكَ الحجارةَ التي أنزلَها الله
على أولئكَ الكفرةِ نَزَلَت مِنَ العرشِ إليهم وكانت مكوّمَةً بمكان في
جنبِ الله فوقَ العرشِ على زعمِهم.
الشرح: حديثُ الجاريةِ مضطربٌ سندا ومتنا لا يصح عن رسول الله، ولا يليق
برسول الله أن يقال عنه إنه حكَم على الجارية السّوداء بالإسلام لِمجردِ
قولها الله في السماء، فإن من أراد الدخول في الإسلام يدخل فيه بالنّطق
بالشهادتين وليس بقول الله في السماء. أما المشبهة فقد حملوا حديث الجارية
على غير مراد الرسول. والمعنى الحقيقيُّ لِهذا الحديث عند من اعتبره
صحيحًا لا يخالفُ تنزيهَ الله عن المكان والحدّ والأعضاء.
وقد ورَد هذا الحديث بعدَّة ألفاظ منها أن رجلا جاء فقال: يا رسول الله إن
لي جارية ترعى لي غنما فجاء ذاتَ يوم ذئبٌ فأكلَ شاة فغضبت فَصككتها – أي
ضربتها على وجههَا – قال : أريدُ أن أُعتقها إن كانت مؤمنة فقال : " ائتني
بِها "، فَأتى بها فقال لها الرسول : " أين الله "، ومعناه ما اعتقادك في
الله من التَّعظيم ومن العلوّ ورفعَة القدر، لأن أين تأتي للسؤال عن
المكان وهو الأكثر وتأتي للسّؤال عن القدْر.